لم يسبق للإعلام العربي أن لبس حلّة الريادة كما كان حاله هذا العام، فلأول مرة بدا إعلامنا وكأنه نجح في اقتلاع رواسب المواقف المسبقة التي طبعته طيلة عقود، وجسّد خلالها المراقب العربي دور المتلقي بنمطية خالصة بعيدة كل البعد عن الديناميكية والتحليل والفهم الصحيح للأحداث، ولكن دون إغفال الانزعاج والامتعاض الكبيرين الذين عبّر عنهما بطرق ووسائل افتقدت الى العلمية، وبقيت في إطار المشاكل المزمنة ما بين المواطن العربي وإعلامه، إلى إن جاء الربيع العربي محققًا "النفضة" المنتظرة منذ عقود ومنجزًا بالتالي المصالحة التاريخية بين مواطن بدأ يجد صوته وصورته ومزاجه وإعلام تأثر بشعار المرحلة الصادح "الشعب يريد".
قد يكون من الجرأة في مكان، القول بأن الإعلام العربي إستحق عام 2011 جرعة من الربيع الذي تفتّح في طول العالم العربي وعرضه، بالنظر الى عنصر المفاجأة الذي صدم الاعلام في المرحلة الأولى من هذا الربيع وحمله على مواكبة الحدث بأسوب لم يخل من الارتباك والأخطاء أحيانا كثيرة، وبالنظر أيضًا الى تفاوت قراءة هذه الثورات حتى ما بين المراقبين الذي وصف بعضهم الثورات والانتفاضات المتنقلة بغير الناضجة وأسقطوا مثل هذه القناعات على توصيف الحالة الاعلامية المواكبة للربيع العربي.
ولكن أمام الصعود النوعي لنجم هذا الإعلام خلال هذا العام المنصرم لا نستطيع إغفال حقيقة أكثر من واضحة مفادها أن إعلامنا غاص في بحر من التجارب الدقيقة أحيانًا والعشوائية الفاقدة للتخطيط أحيانا كثيرة، وهذا المزج أسس في المحصلة لمشهدية إعلامية جديدة وطريقة عمل جديدة لا عودة فيها إلى خريف إعلامي يتحكم به مقص رقيب وتغربل مضامينه أقلام حمراء، اللّهم إلاّ أذا كان ما نشاهده اليوم مجرّد نشوة عابرة سيخسر الاعلام العربي بعدها المعركة والمبادرة وهذا ما لا نتمنّاه.
وعندما نتحدث عن مشهدية إعلامية جديدة أفرزها الربيع العربي، فلا بدّ من التوقف عند العناصر الجديدة التي دخلت على خط التقدم ودفعتنا كمراقبين للنظر بعين الأمل الى الربيع الاعلامي المُعاش، فنصادف لأول وهلة الشباب العربي الذين جعلوا من حواسيبهم الشخصية وهواتفهم الذكية ومدوناتهم وصفحاتهم على المواقع الالكترونية التفاعلية المصادر الأساسية لرياح التغيير بعيدًا عن الصبغة السياسية والاقليمية له، وهذا بشهادة آلاف التقارير والمقالات والدراسات التي كتبت عن استياء الدوائر اللصيقة بالأنظمة السياسية البائدة من تعلق الشباب العربي بوسائل التواصل الاجتماعي.
والأهم من الشباب العربي الذي فجّر رؤاه وأفكاره على الصفحات العنكبوتية، إيمانُ الوسيلة الاعلامية العربية بالمضمون الذي حاول الشاب العربي تقديمه رغم بعده عن التخصص وافتقاده للحرفية المطلوبة، فعندما عجزت هذه الوسائل الإعلامية عن استقاء المعلومات المرتبطة بالربيع العربي وأحوال الثورات والانتفاضات، أدركت بأن الحلول المتاحة ليست أكثر من الصور والأفلام ومقاطع الفيديو الملتقطة بالجودة المعقولة لكن القادرة على ايصال صور الظلم والقتل والدم والتضييق الى كل من يهمه الأمر.
وهكذا توطّدت العلاقة بين الاعلام والشباب العربي، وهكذا أحيط الحدث بالكم المطلوب والوافي من المعلومات ومقاطع الصوت والصور على رداءتها أحيانا، وهكذا اكتشف الناشط والشاب العربي فعالية نشاطه ودوره في حراك التغيير، هذا عدا عن أهمية عنصر الثقة التي منحها الاعلام العربي للشباب بمجرد عرضه لصور وتعليقات وأفلام الناشطين الأمر الذي عزز ثقافة الصحافي المواطن، وأضفى على الحراك الاعلامي أسلوبًا جديدا سينعكس ارتياحًا على العمل الاعلامي العربي في المستقبل وسيوّسع المصادر الإخبارية للأحداث.
ومن علامات التقدم الذي أنعش إعلامنا العربي، نزوله مع الاعلاميين من البرج العاجي المراقب للحدث حتى حدود التنظير، الى ما يشبه الميادين المصغّرة لتلك التي نادى منها الشباب العربي بالحرية والكرامة وهذا ما لمسناه من خلال التغيير الجذري الذي طرأ على التغطيات الاخبارية التي انتقلت من اسلوبها السردي النمطي الى الاسلوب التفاعلي الذي حول المداخلات والاتصالات الهاتفية المباشرة وشهود العيان الى المصدر الأساسي للمواقف أكثر من دوائر القرار والسلطة والمتحدثين الرسميين للمعارضة في المقابل، بالإضافة الى البرامج الإخبارية والحوارية التي غدا فيها الشباب والناشطون جزءًا لا يتجزأ، حتى أن عددًا كبيرًا من القنوات العربية صممت برامج تحاكي أفكارهم وهواجسهم، فيما برزت نوعية أخرى من البرامج أضاءت على المدونات وعلى حراك الثورة في فيسوبك وتوتير.
أما المظاهر القسوى لتخطي اعلامنا العربي حقبه الخريفية الماضية، عنصر التقليد الذي حل ايجابيا هذه المرة وليس سطحيا يهمل الجوهر ويتلهّى بالقشور، فبالقدر الذي تهتم فيه أضخم المحطات والقنوات الأخبارية بوسائل التواصل الاجتماعي وحراك الشباب العربي، كذلك هو الحال في أصغر اذاعة محلية وأصغر مجلة وصحيفة ونشرة وقصاصة ومطوية في عالمنا العربي.
عندما تحول المواطن العربي من موقع المقموع المصادرة حرياته والمنتهكة كرامته الى موقع الثائر المتمرد على قيود الواقع الظالمة، أطلقنا على هذا الحراك اسم الربيع العربي، أما اليوم وقد تغلغل الوعي الى اعلامنا العربي وحوّله من نشرة سلطوية رسمية الى واحة للحريات المفقودة، فإننا نستطيع وضع الشكوك والتكهنات جانبًا والاستفادة من لحظة الوعي هذه للقول بأن للإعلام العربي ربيع أيضًا أزهر عام 2011 .
عمر الفاروق النخال
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق